كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الجملة مثل ما حكاه الله عنهم في قوله: {وقال الّذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالّذي بين يديه} [سبأ: 31].
ومن أئمّة التّفسير من جعل هذا حكاية لقول بعض اليهود، واختلفوا في أنّه معيّن أو غير معيّن، فعن ابن عبّاس أيضًا، وسعيد بن جبير، والحسن، والسديّ: أنّ قائل: {ما أنزل الله على بشر من شيء} بعض اليهود وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة أنّ قائل ذلك مالك بن الصيف القُرظي وكان من أحبار اليهود بالمدينة، وكان سمينًا وأنّه جاء يخاصم النّبيء صلى الله عليه وسلم فقال له النّبي: «أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى أمَا تجد في التّوراة أنّ الله يبغض الحَبر السمين» فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء.
وعن السُدّي: أنّ قائله فِنْحاص اليهودي.
ومحمل ذلك كلّه على أنّ قائل ذلك منهم قاله جهلًا بما في كتبهم فهو من عامّتهم، أو قاله لجاجًا وعِنادًا.
وأحسب أنّ هذه الرّوايات هي الّتي ألجأت رواتها إلى ادّعاء أنّ هذه الآيات نزلت بالمدينة، كما تقدّم في الكلام على أوّل هذه السورة.
وعليه يكون وقع هذه الآيات في هذا الموقع لمناسبة قوله: {أولئك الّذين آتيناهم الكتاب} [الأنعام: 89] الآية، وتكون الجملة كالمعترضة في خلال إبطال حجاج المشركين.
وحقيقة {قدروا} عيَّنوا القَدْر وضَبطوه أي، عَلّموه عِلمًا عن تحقّق.
والقَدْر بفتح فسكون مقياسُ الشيء وضابطه، ويستعمل مجازًا في عِلم الأمر بكُنهه وفي تدبير الأمر.
يقال: قَدَر القومُ أمرهم يقدُرونه بضمّ الدّالّ في المضارع، أي ضبطوه ودبَّروه.
وفي الحديث قول عائشة: «فاقدُروا قدْرَ الجاريةِ الحديثة السنّ» وهو هنا مجاز في العلم الصّحيح، أي ما عرفوا الله حقّ معرفته وما علموا شأنه وتصرّفاته حقّ العلم بها، فانتصب {حقّ} على النّيابة عن المفعول المطلق لإضافته إلى المصدر وهو {قَدْرِه}، والإضافة هنا من إضافة الصّفة إلى الموصوف.
والأصل: ما قدروا الله قَدْرَه الحَقّ.
و{إذ قالوا} ظرف، أي ما قدروه حين قالوا: {ما أنزل الله} لأنّهم لمّا نفوا شأنًا عظيمًا من شؤون الله، وهو شأن هديه النّاس وإبلاغهم مرادَه بواسطة الرّسل، قد جهلوا ما يفضي إلى الجهل بصفة من صفات الله تعالى الّتي هي صفة الكلام، وجهلوا رحمته للنّاس ولطفه بهم.
ومقالهم هذا يعمّ جميعَ البشر لوقوع النكرة في سياق النّفي لِنفي الجنس، ويَعمّ جميعَ ما أنزل باقترانه بـ {منْ} في حيز النّفي للدّلالة على استغراق الجنس أيضًا، ويعمّ إنزالَ الله تعالى الوحيَ على البشر بنفي المتعلِّق بهذين العمومين.
والمراد بـ {شيء} هنا شيء من الوحي، ولذلك أمر الله نبيّه بأن يُفْحمهم باستفهاممِ تقريرٍ وإلجاءٍ بقوله: {مَن أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى} فذكَّرهم بأمر لا يستطيعون جحده لتواتره في بلاد العرب، وهو رسالة موسى ومجيئه بالتّوراة وهي تدرس بين اليهود في البلد المجاور مكّة، واليهودُ يتردّدون على مكّة في التّجارة وغيرها، وأهل مكّة يتردّدون على يثرب وما حولها وفيها اليهود وأحبارهم، وبهذا لم يذكِّرهم الله برسالة إبراهيم عليه السّلام لأنّهم كانوا يجهلون أنّ الله أنزل عليه صُحفًا فكان قد يتطرّقه اختلاف في كيفية رسالته ونبوءته.
وإذا كان ذلك لا يسع إنكاره كما اقتضاه الجواب آخِرَ الآية بقوله: {قل الله} فقد ثبت أنّ الله أنزل على أحدٍ من البشر كتابًا فانتقض قولهم: {ما أنزل الله على بشر من شيء} على حسب قاعدة نقض السالبة الكليّة بموجبة جزئيّة.
وافتتح بالأمر بالقول للاهتمام بهذا الإفحام، وإلاّ فإنّ القرآن كلّه مأمور النّبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله.
والنّور: استعارة للوضوح والحقّ، فإنّ الحقّ يشبّه بالنّور، كما يشبّه الباطل بالظلمة.
قال أبو القاسم عليّ التنّوخي:
وكأنّ النّجومَ بين دُجاها ** سُنَن لاَحَ بينهنّ ابتِدَاعُ

ولذلك عطف عليه {هدى}.
ونظيره قوله في سورة المائدة (44) {إنّا أنزلنا التّوراة فيها هُدَى ونور}.
ولو أطلق النّور على سبب الهدى لصحّ لولا هذا العطف، كما قال تعالى عن القرآن: {ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52].
وقد انتصب {نورًا} على الحال.
والمراد بالنّاس اليهود، أي ليهديهم، فالتّعريف فيه للاستغراق، إلاّ أنّه استغراق عرفي، أي النّاس الّذين هم قومه بنو إسرائيل.
وقوله: {تجعلونه قراطيس} يجوز أن يكون صفة سببيّة للكتاب، ويجوز أن يكون مُعترضًا بين المتعاطفات.
قرأ {تجعلونه وتبدون وتخفون} بتاء الخطاب مَن عدا ابنَ كثير، وأبَا عمرو، ويعقوب، من العشرة، فإمّا أن يكون الخطاب لغير المشركين إذ الظاهر أن ليس لهم عمل في الكتاب الذي أنزل على موسى ولا باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه فتعيّن أن يكون خطابًا لليهود على طريقة الإدماج (أي الخروج من خطاب إلى غيره) تعريضًا باليهود وإسماعًا لهم وإن لم يكونوا حاضرين من باب إياكَ أعنِي واسمَعي يا جارة، أو هو التفات من طريق الغيبة الّذي هو مقتضى المقام إلى طريق الخطاب.
وحقّه أن يقال يجعلونه بياء المضارع للغائب كما قرأ غير هؤلاء الثّلاثة القرّاء.
وإمّا أن يكون خطابًا للمشركين.
ومعنى كونهم يجعلون كتابَ موسى قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها أنّهم سألوا اليهود عن نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم فقرأوا لهم ما في التّوراة من التمسّك بالسبتتِ، أي دين اليهود، وكتموا ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم الّذي يأتي من بعدُ، فأسند الإخفاء والإبداءُ إلى المشركين مجازًا لأنّهم كانوا مظهرًا من مظاهر ذلك الإخفاء والإبداء.
ولعلّ ذلك صدر من اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة وأسلم مَن أسلم من الأوس والخزرج، فعلم اليهود وبال عاقبة ذلك عليهم فأغروا المشركين بما يزيدهم تصميمًا على المعارضة.
وقد قدّمتُ ما يرجّح أنّ سورة الأنعام نزلت في آخر مدّة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، وذلك يوجب ظننّا بأنّ هذه المدّة كانت مبدأ مداخلة اليهود لقريش في مقاومة الدّعوة الإسلاميّة بمكّة حين بلغت إلى المدينة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {يجعلونه}، {ويُبدونها}، {ويخفون} بالتحتيّة فتكون ضمائرُ الغيبة عائدة إلى معروف عند المتكلّم، وهم يهود الزّمان الّذين عُرفوا بذلك.
والقراطيس جمع قرطاس.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولو نزّلنا عليك كتابًا في قرطاس} في هذه السّورة [7].
وهو الصحيفة من أي شيء كانت من رَقّ أو كَاغِد أو خرقة.
أي تجعلون الكتاب الّذي أنزل على موسى أوراقًا متفرّقة قصدًا لإظهار بعضها وإخفاء بعض آخر.
وقوله: {تبدونها وتخفون كثيرًا} صفة لقراطيس، أي تبدون بعضها وتخفون كثيرًا منها، ففهم أنّ المعنى تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض.
وهذه الصّفة في محلّ الذمّ فإنّ الله أنزل كتبه للهُدى، والهدى بها متوقّف على إظهارها وإعلانها، فمن فرّقها ليظهر بعضًا ويخفي بعضًا فقد خالف مراد الله منها.
فأمّا لو جعلوه قراطيس لغير هذا المقصد لما كان فعلهم مذمومًا، كما كتب المسلمون القرآن في أجزاء منفصلة لقصد الاستعانة على القراءة، وكذلك كتابة الألواح في الكتاتيب لمصلحة.
وفي جامع العُتبية في سماع ابن القاسم عن مالك سُئل مالك رحمه الله عن القرآن يُكتب أسداسًا وأسباعًا في المصاحف، فكره ذلك كراهيةً شديدة وعابها وقال لا يفرّق القرآن وقد جمعه الله وهؤلاء يفرّقونه ولا أرى ذلك. اهـ.
قال ابن عاشور:
قال ابن رشد في البيان والتّحصيل: القرآن أنزل إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد شيء حتّى كَمُل واجتمع جملة واحدة فوجب أن يحافظ على كونه مجموعًا، فهذا وجه كراهيّة مالك لتفريقه اهـ.
قلْت: ولعلّه إنّما كره ذلك خشية أن يكون ذلك ذريعة إلى تفرّق أجزاء المصحف الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظنّ أنّ ذلك الجزء هو القرآن كلّه، ومعنى قول مالك: وقد جمعه الله، أنّ الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعه بعد أن نزل منجّمًا، فدلّ ذلك على أنّ الله أراد جمعه فلا يفرّق أجزاء.
وقد أجاز فقهاء المذهب تجْزئة القرآن للتعلّم ومسّ جزئه على غير وضوء، ومنه كتابته في الألواح.
وقوله: {وعُلّمتم ما لم تعلموا} في موضع الحال من كلام مقدّر دلّ عليه قوّة الاستفهام لأنّه في قوّة أخبروني، فإنّ الاستفهام يتضمّن معنى الفعل.
ووقوع الاستفهام بالاسم الدّال على طلب تعيين فاعل الإنزالَ يقوّي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمّن اسم الاستفهام فعلًا وفاعلًا مستفهمًا عنهما، أي أخبروني عن ذلك وقَد علّمكم الله بالقرآن الّذي أنكرتم كونه من عند الله، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئًا، ولو أنصفتم لوجدتم وإمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه.
وهذا الخطاب أشدّ انطباقًا على المشركين لأنّهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التّشريع ونظامه فلمّا جاءهم محمّد عليه الصّلاة والسّلام عَلم ذلك من آمَن علمًا راسخًا، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدّعوة ومن مخالطيهم من المسلمين، وقد وصفهم الله بمثل هذا في آيات أخرى، كقوله تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحِيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49].
ويجوز أن تكون جملة: {وعُلّمتم} عطفًا على جملة: {أنْزَل الكتاب} على اعتبار المعنى كأنّه قيل: وعلّمكم ما لم تعلموا.
ووجه بناء فعل {عُلّمتم} للمجهول ظهور الفاعل، ولأنّه سيقول: {قُل الله}.
فإذا تأوّلنا الآية بما روي من قصّة مالك بن الصّيف المتقدّمة فالاستفهام بقوله: {مَن أنزل الكتاب} تقريري، إمّا لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد، مثل فساد اطّراد التّعريف أو انعكاسه، وإمّا لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بطريقة الإلزام لأنّهم أظهروا أنّ رسالة محمّد عليه الصلاة والسلام كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التّقرير {من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى} ولا يسعهم إلاّ أن يقولوا: الله، فإذا اعترفوا بذلك فالّذي أنزل على موسى كتابًا لم لا ينزل على محمّد مِثله، كما قال تعالى: {أم يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء: 54] الآية.
ثمّ على هذا القول تكون قراءة: {تجعلونه قراطيس} بالفوقيّة جارية على الظاهر، وقراءتُه بالتّحتيّة من قبيل الالتفات.
ونكتته أنّهم لمّا أخبر عنهم بهذا الفعل الشّنيع جُعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب.
والمخاطب بقوله: {وعُلّمتم} على هذا الوجه هم اليهود، فتكون الجملة حالًا من ضمير {تجعلونه}، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أنّ الله علّمكم على لسان محمّد ما لم تكونوا تعلمون، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به.
ويجيء على قراءة {يجعلونه قراطيس} بالتّحتيّة أن يكون الرّجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتًا أيضًا.
وحسّنه أنّه لمّا أخبر عنهم بشيء حَسن عَادَ إلى مقام الخطاب، أو لأنّ مقام الخطاب أنسب بالامتنان.
واعلم أنّ نظم الآية صالح للردّ على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين.
فعلى الرّواية الأولى فواو الجماعة في قدروا وقالوا عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء، وعلى الرّواية الثّانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معيّن على طريقة التّعريض بشخص من باب «مَا بالُ أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله»، وذلك من قبيل عود الضّمير على غير مذكور اعتمادًا على أنّه مستحضر في ذهن السامع.
وقوله: {قل الله} جواب الاستفهام التّقريري.
وقد تولّى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأنّ المسؤول لا يسعه إلاّ أن يجيب بذلك لأنّه لا يقدر أن يكابر، على ما قرّرتُه في تفسير قوله تعالى: {قل لمن ما في السّماوات والأرض قل لله} في هذه السّورة [12].
والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى.
وإذا كان {وعُلّمتم ما لم تعلموا} معطوفًا على جملة {أنزل} كان الجواب شاملًا له، أي الله علّمكم ما لم تعلموا فيكون جوابًا عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حدّ قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد:
ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط ممّا تُطيح الطَّوائح

كأنّه سئل من يَبكيه فقال: ضارع.
وعطف {ثمّ ذرّهم في خوضهم يلعبون} بثمّ للدّلالة على التّرتيب الرتبي، أي أنّهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلّة فَتَرْكُهم وخَوْضهم بعد التّبليغ هو الأولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.
وقوله: {في خوضهم} متعلّق بـ {ذرهم}.
وجملة {يلعبون} حال من ضمير الجمع.
وتقدّم القول في ذر في قوله تعالى: {وذر الّذين اتّخذوا دينهم} [الأنعام: 70].
والخوض تقدّم في قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} [الأنعام: 68].
واللّعب تقدّم في {وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعبًا} في هذه السّورة [70]. اهـ.